جلست على مقعدها الخشبى المتهالك أمام إحدى العمارات، بدا الوهن على الجسد العجوز وشت به كلمات متقطعة خرجت بصوت ضعيف "عملت كل التحاليل والأشعة حاعمل العملية الأسبوع الجاى .. كنت محوشة قرشين وولادى ساعدونى وسكان العمارة الله يكرمهم والحمدلله كملت فلوس العملية . ربنا كريم وإحنا أحسن من غيرنا".
* وضع مرتبه الضئيل متجاهلا تبرم زوجته مزيحا عن عمد قائمة طويلة من الطلبات إعتادت أن تصدمه بها كل أول شهر ..وقبل أن يسمع إسطوانتها المشروخة عن الغلاء وعجز دخله على تلبية أبسط إحتياجات البيت والأولاد سارع بجملته الأثيرة "إحمدوا ربنا غيرنا مش لاقى .إحنا أحسن من غيرنا".
* نظر بشفقة ورثاء لجسد والده المنهك وهو يرفع "قدرة الفول "" بصعوبة لينقلها إلى العربة، تابع يديه وهى تتحرك بثقل لترص الأطباق وتجهز الأرغفة للزبائن.. سرح لسنوات مضت قبل أن ينال الزمن من جسد والده العفى . وقتها كان يتحرك بخفة لم يكد يشعر بثقل مايحمله بينما يداه تعملان بسرعة وخفة ووجهه لاتغيب عنه إبتسامة رضا، وهن الجسد ولم تغب تلك الإبتسامة التى إعتاد بها مواجهة أصعب الظروف وأشد الأزمات .. مرض أمى وعلاجها المكلف الذى لاتتحمله طاقته.. وتعثر شقيقى فى دراسته ومصاريف تعليمى وتكاليف زواج أختى .. كم محنة وعثرة وضيق واجه بتلك الإبتسامة وبجملته الاثيرة " إلحمد لله إحنا أحسن من غيرنا".
* رجعت بعد يوم مرهق شاق إلى شقتها المتواضعة، رفعت الغطاء عن عدة أطباق ورقيه أعطتها لها ربة البيت الذى تعمل فيه، رائحة الطعام الشهى لم تفلح فى إدخال السرور على نفوس أولادها فقدت تاثيرها عكس ماكان يحدث حين كانوا صغارا، تجاهلت نفورهم معزية نفسها بأنها "محظوظة "..رزقها الله باسرة كريمة تعمل عندها، لم تبخل عليها يوما فى تقديم أى مساعدة تحتاجها، يعاملها الجميع بطيبة كأنها واحدة منهم، لم تتعرض يوما للإهانة.. ولم تضطر للانتقال من بيت لآخر عكس الأخريات. "الحمد لله إحنا أحسن من غيرنا" تردد فى نفسها دائما فى قناعة ورضا ودعاء أن يديم الله فضله .
* حملت إبنها لتصعد به إلى الأتوبيس، لم ينل جسده الثقيل من إبتسامتها التى لم تختف من وجهها .. تزداد إتساعا كلما لمحت نظرة حزن تتسلل إلى وجهه.. فى التاسعة من عمره تعرض لحادثة أثرت على حركته يحتاج لجلسات علاج طبيعى، تحمله إليها بإنتظام حملا، غير عابئة بالتعب .. لايهون عليها تلك المشقة سوى أمل بالشفاء تطلبه وتسعى جاهدة لتحقيقه.. قوتها وصمودها غير خافية تعكسها كلماتها المحفزة دوما لولدها المشجعة له "خليك راجل ..كله حيعدى .. وحتمشى تانى على رجليك .أن شاء الله حتخف . قدر ولطف .والحمد لله إنت أحسن من غيرك بكتير".
كلمات نعزى بها أنفسنا.. نطبطب بها على جروحنا، نهون بها آلامنا، نواجه بها ضيقنا وأزماتنا ومشاكلنا، نتحدى بها الصعاب، نقوى بها ضعفنا، نزيد من أملنا فى تحسن أوضاعنا وحل مشاكلنا، هى محاولة للرضا بالقدر ليرضى عنا الله فيبدل حالنا ويفرج كربنا.. هكذا نوقن لكننا فى لحظة نتساءل: هل هى حكمة أن نصل لتلك الحالة من قبول مانحن عليه أم قلة حيلة وعجز وتخدير وتغييب لأحوالنا الصعبة.. عجز أدركه ولاة أمورنا فأجادوا اللعب عليه.. وتمادوا فى تخويفنا وإفزاعنا لنرضى بمانحن عليه ولانتطلع لتغير حالنا، رضا بواقع صعب وأزمات طاحنة وجيوب خاوية وبطون جائعة تحت نفس شعار قليلى الحيلة "إحنا أحسن من غيرنا" .أو "مش أحسن مانبقى زى سوريا والعراق".
وللحق برع المحترفون فى اللعب على وتر الغلابة وبامتياز .. برافو.
___________
بقلم: هالة فؤاد